مناسبة الزواج هي أهم حدث من أحداث الفرح في حياة الانسان الشعبي، فهو الهدف الذي كرس له كل جهده منذ أن شب واكتمل بناؤه. كذلك، فإن الزواج عند الشايقية ليس حدثاً دنيوياً محضاً يقع اختياراً وصدفة في حياة الأفراد والأسر، بل هو أمر يدخل في نطاق «القسمة والارادة». أنه فعل وحتمية إلهية مثله بالضبط مثل الحياة والموت عندهم، فهي إذاً مناسبة مطبوعة بطابع غيبي واضح، امتزجت فيها المفاهيم الاسلامية مع الموروثات العقائدية الضاربة بجذورها في هذه المنطقة. فإلى جانب كل أشكال الممارسات «الدنيوية» المكثفة من احتفالات وولائم وغناء ورقص نجد توجهاً غيبياً كامناً في كل مرحلة وفي كل خطوة في سبيل استكمال هذه المناسبة. نلحظ هذا التوجه منذ اللحظة التي تحدد فيها مواعيد «الصفاح» أي «كتابة الكتاب» باستشارة أحد «الأولياء» الأحياء أو الفقهاء، فهناك أوقات غير مباركة يتفادون فيها الزواج. ونلاحظ كذلك مدى مراقبة الناس للعريس في أيام زواجه وحرصهم عليه فإذا تعرض لأية حادثة في تلك الأيام مهما كانت طفيفة فهي كفيلة بإثارة قدر من الذعر والتساؤل لدى أفراد عشيرته. فكأنما يتحول العريس في أيامه تلك ويصير مركزاً للمجابهة بين قوى الخير وقوى الشر- وكأنما هذا الجهد في سبيل «العديل والزين» لا بد وأن يستقطب قوى أخرى خفية شريرة ومعادية. أنها نفس القوى التي تترصد ميلاد الذرية في مناسبة الوضوع، وهي نفسها في مناسبة الختان تهتم بإيذاء الصبية وهم في أولى خطواتهم نحو النضوج والاكتمال.
تبدأ الاحتفالات رسمياً بيوم الحنة «الحناء» في منزلي العروسين وتكون العروس قد أكملت «مشاط» شعرها. وقد كانوا في وقت سابق يضعون في نهاية كل ضفيرة من شعر العروس كرات من عجينة من روائح المحلب والقرنفل الممزوج بالودك «زيت الشحم» حتى تشد الشعر وليستقيم في شكله، كذلك لإعطائه رائحة ذكية، وأخيراً لتركيز حركته عند الرقص. في اليوم التالي يتم العقد «الصفاح» في المسجد أو «الخلوة»، ويسير العريس في رهط من رفقائه إلى أحد الأولياء وغالباً تكون قبته أو مزاره الخاص بدائرتهم. وفي المساء تكون «السيرة» إلى بيت العروس في جمع من النساء والشباب ووسط موجات صاخبة من الغناء والزغاريد حاملين الهدايا «الشيلة». في هذه الليلة وتسمى ليلة الدخلة يقام الاحتفال الرئيسي وما يهمنا فيه هو «وقفة العروس» تعني كشفها في كامل زينتها وأدائها للرقص الخاص بها. ثم عملية قطع الرحط في نهاية الاحتفال.
عند منتصف الليل يوقف الرقص والغناء وتحضر العروس مغطاة بثوب خاص من القماش الناعم يسمى القرمصيص وهو ثوب خاص بالعروس والمرأة المتزوجة فقط ويتميز بألوانه الدافئة المكونة من الأحمر الغامق والخطوط الصفراء والخضراء والذهبية، وقد وصفته إحدى الروايات بأنه «رطب وألوانه سمحة». كذلك ترتدي العروس ما كان يعرف بالتنورة وهي قطعة غير مخاطة من القماش الأبيض مثبتة برباط حول الخصر وتتدلى لتكسوها حتى القدمين ومن تحتها تلبس الرحط. أما صدرها فعار إلاَّ من الحلى. ولقد تدرجت أنواع الحلى التي تلبسها العروس من أبسط أشكالها مثل الطاب وأنواع السبح والخرز والمطارق، مروراً بأشكال أكثر تعقيداً وثراء في الخامة والشكل مثل الفدو والطاعات والاكمام والحجول والأبيق والنقار والودعة، وحتى أشكال الحلى الذهبية المتأخرة نسبياً والتي سارت حتى بداية الستينيات مثل السعفة والقمر بوبا والفتيلة والتلال والشف والتي بدأت بدورها تفسح المجال للحلي الحديثة بالطبع فإن كمية ونوعية ما تلبسه العروس يتوقف على القدرة الاقتصادية لأهلها وللعريس نفسه. كذلك، فبعض الحلى تغني عن البعض الآخر خاصة عندما يتعلق الأمر بالموقع، فمن الصعوبة مثلاً أن تجمع العروس- أو أية امرأة أخرى- بين حلى مثل الشف والدقة أم ركايز والتيلة.
بانتهاء رقصة العروس ينتهي الاحتفال، وعندئذ يذهب العريس مع أقرب أصدقائه «الوزير» لأداء طقس اساسي هو قطع الرحط- والرحط كان لباس الفتيات حتى العقد الرابع من القرن الماضي في كثير من أجزاء المنطقة بحسب الرواة واستمر كلباس للفتيات الصغيرات إلى ما بعد ذلك بقليل، يدخل العريس يده من تحت التنورة فيقطع السير الذي يربط الرحط. وتتضح وظيفة التنورة في أنها تكسو العروس عند عملية قطع الرحط. تعتبر هذه العملية إيذاناً ببدء مرحلة جديدة، وتغيراً نوعياً في حياة العروسين- ويبدو لي ان تقليداً مثل قطع الرحط هذا ومن قبله أداء العروس لرقصتها بطريقة معينة ومن أمامها العريس ممسكاً بحجابها، يبدو ذلك أقرب إلى الأداء المسرحي الرمزي الذي يجسد الاعتراف بحق العريس في ممارسة حقوقه الزوجية على فتاته. وليس بمستبعد ان يكون مثل هذا الأداء «المسرحي» امتداداً لما تعوده الانسان عبر عصوره من الافتعال التمثيلي لما يود تحقيقه، واحاطة هذا الافتعال بكثرة من الطقوس والممارسات التي يعتقد أنها تضمن وقوع الفعل الحقيقي وتباركه.
يظل العريس ابتداء من هذه الليلة ولمدة أربعين يوماً في منزل أهل العروس، وفي اليوم السابع بعد ليلة الدخلة يحين وقت الجرتق، ولو أن هذه المدة قد اختصرت كثيراً، فما عاد العريس يقضي في منزل عروسه أكثر من أيام معدودة يغادر بعدها إلى منزله. وتعدلت مواعيد الجرتق فصارت في اليوم التالي لليلة الدخلة. والملاحظ في توقيت عمل الجرتق أنه في كل الحالات يتم بعد اكتمال الحدث. فالحامل «تجرتق» بعد الوضوع والمختون بعد عملية الختان والعروسين بعد ليلة الدخلة وهي آخر خطوة في استكمال الشرعية والقبول الاجتماعيين للعلاقة الزوجية.. تتم عملية الجرتق بعد نحر الذبائح وفي احتفال مصغر تردد فيه الأغاني مثل «البنينة» وبعد سلسلة من الممارسات التي يقصد منها الفأل الحسن والتبرك مثل ان يرش العروسين أحدهما الآخر باللبن، تقوم والدة العريس بربط الخرزة وباقي الحلى الأخرى للعروسين كذلك وضع الضريرة «الفال».
وجدير بالذكر ان العريس في هذا الوقت يمتشق سيفاً ويحمل سوطاً ضخماً من الجلد إلى جانب حلى الجرتق. تجرى مراسم الجرتق وقطع الرحط مرة واحدة للفرد في حياته حتى لو تزوج- أو تزوجت- أكثر من مرة. أما باقي أنواع الزينة وأسباب التهيؤ الجمالي الأخرى بالنسبة للمرأة التي تتزوج بعد المرة الأولى فتكون كما هي. وأخيراً بعد انقضاء الأربعين يوماً يخرج العريس إلى عمله وترحل العروس إلى منزل زوجها في رهط من أهلها وصديقاتها حيث يكون المنزل في كامل اعداده وزينته.
ولقد بدأت آثار التغيير تعتري أدوات الزينة هذه خاصة عند الأجيال الجديدة.
فمع اتساع عمليات التحديث والانفتاح الثقافي في منتصف القرن الماضي بسبب الهجرات والاتصال والتعليم دخلت عناصر الحلى الحديثة في الاستعمال اليومي وأخذت مكانها في المناسبات وخاصة مناسبة الزواج. ومع أن المفاهيم والمعتقدات والخطوات الأساسية في احتفالات الزواج بقيت كما هي في ترتييبها وفي اجراءاتها إلاَّ ان التغيرات والاستثناءات بدأت تأخذ طريقها إلى هذه الجوانب الأساسية. وقد بدأت الأجيال الجديدة خاصة في المواقع الحضرية وما حولها داخل المنطقة تتجه إلى الموضات والتقليعات التي تبدأ في العاصمة وتنتشر بعد ذلك. فقد بدأت تنتشر تسريحات الشعر المختلفة بدلاً من «المشاط» وبدأ التزين بأنواع السلاسل والحلقان والغوايش المختلفة الواردة من العاصمة أو المدن القريبة، وبعضها مستورد من خارج القطر. كذلك بدأت العروس تتزين بحلى مثل الغوايش، وبدأت الحلى التي كانت سائدة حتى الستينيات تختفي، أما الحلى الفضية مثل الأكمام والحجول والسوارات فقد سارت في طريق الاندثار منذ ستينيات القرن الماضي. كذلك اختفت من قبل عادات تزينية قدمية مثل دق الشلوفة و«شم الشفة السفلى - الفصل الرابع» والشلوخ. لكننا رغم ذلك ما زلنا نجد في الأجزاء الداخلية من منطقة الشايقية كثيراً من العادات والتقاليد الخاصة بأدوات الزينة وأنواعها قائمة كما هي.
الزار «الظهر أو الريح الأحمر»
يعرف الدكتور محمد الجوهري الزار بأنه «عبارة عن حفل- ذى مقومات خاصة- يستهدف طرد الأرواح أو استرضاءها. ويتم ذلك من خلال تقديم الأضاحي والقرابين، وأداء بعض الرقصات ذات الايقاع الساخن».
وقد اتفق معظم الدارسين لموضوع الزار على أن اصله وأصل الكلمة نفسها يرجعان إلى الحبشة ويحدد أحد الباحثين بأن لفظة زار لفظ أمهري معناه حلول الشر في انسان ما.
والاعتقاد السائد عن الشايقية يتوافق مع هذه التعريفات. فالزار أو الريح الأحمر قوى خفية أو أرواح «أسياد» بخلاف الجن والشياطين، تستطيع أن تحل في انسان معين عندما تريد بعض الأشياء وبمجرد أن تحل هذه الأرواح في شخص ما فإن شخصيته تصبح مطابقة لهذه الروح التي حلت فيه، فيصبح كل ما يحدث عنه هو بلسان هذا الروح أو السيد، وكل تصرفاته وسلوكه هي «بالفعل» تصرفات وسلوك هذه الأرواح، ومن ناحية أخرى فهذه الأروح حساسة جداً تجاه «طلباتها» فهي تتميز بسلوك قلق هو نفس سلوك الشخص الذي حلت فيه، وعليه يكون هذا الشخص بناءً على هذا السلوك «مريض بالزار» أو «فوقه الدساتير» تستمر هذه الأرواح في إلحاحها على طلباتها ولا «تعفو» ولا «ترضى» عن الذين حلت فيهم إلاَّ بعد حصولها عليها. كذلك لا تفارق هذه الأرواح أولئك الذين حلت فيهم حتى عندما تستجاب طلباتها ولكنها تدخل معهم في سلام يرجع بعده المريض إلى حالته العادية. ومن الصفات المميزة للأسياد أنها أرواح نظيفة بطبيعتها- خلافاً للـ «الريح الأسود» وتحب الأشياء الجميلة المبهجة.
وتقترن هذه الأرواح بما يسمى في اصطلاحهم «الخيوط» ولها أسماؤها الخاصة مثل الدراويش والحبش والعرب والسحاحير «جمع ساحر» والخواجات والستات ومنهن بنات الأولياء أو شيوخ الدين المشهورين في المنطقة. ولكل خيط من هذه الخيوط طلباته وايقاعه وأغانيه الخاصة به.
ويتم تشخيص المريض عن طريق شيخة الزار، حيث تأخذ قطعة من ملابس المريضة تسمى «العلق» وتضعها تحت رأسها عند النوم فيأتي لها «الجماعة» أي أرواح الزار وغالباً يكون هذا اللقاء على «مستوى الحلم» فيتحدثون لها عن أسباب مرض صاحبة «العلق» ويشرحون علاجه الذي يتلخص في اجابة طلبات معينة وفي الصباح تقوم الشيخة بابلاغ المريضة بما حدث.
وفي عملنا الميداني انتقينا نموذجاً من مريضات الزار ممن تدخل الحلى ضمن طلبات ومستلزمات علاجها.. هذه المريضة تقترب من عامها الستين وتنتمي إلى خيط «الستات» المذكور سابقاً.
هذا وبعد استقرائنا للوقائع التي جمعناها في هذا الموضوع نبين الملاحظات التالية:
أولاً:
في خمسة من هذه الحلى الثماني كان الغرض الأساسي وراء لبس الحلية غرض علاجي أما الثلاثة المتبقيات فالغرض منهن جمالي. هذه الحلى العلاجية تتكون من حيث الخامة من الخرز والفضة والنحاس، ومن حيث الجانب الرمزي فيها اثنان طلبتا بواسطة أحد «أولياء الصالحين» وهو الشيخ عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية الصوفية، وواحدة من هذه الحلى طلبت بواسطة السيدة خضرة وهي بنت أحد أقطاب الطريقة الختمية. وكما بينا في الفصل الخامس عند مناقشتنا للمفاهيم والمعتقدات المرتبطة بأنواع الحلى من حيث خاماتها ورموزها فإن هذه الحلى المطلوبة كعلاج للزار ما هي في الواقع إلاَّ تمائم. فالجبيرة مثلاً معروفة بأنها إحدى حلى الجرتق، وخواتم الفضة من أقدم أنواع التمائم، والخاتم الذي كتب فيه اسم الشيخ عبد القادر يعتبر «عوذة» أو رقية. ومن ناحية أخرى نلاحظ في نوعية الأمراض التي طلبت هذه الحلى لأجلها أنها أمراض عضوية «آلام الظهر والرقبة والرجلين والأصابع» وليست نفسية. وعلى الرغم من تفسير أطباء النفس بأن جميع هذه الأمراض العضوية المقترنة بالزار تكون بسبب الايحاءات النفسية.. إلخ وغير ذلك من المسميات المرتبطة بهذا المعنى، إلاَّ أنه يمكننا أن نشير إلى ناحية التجريب الشعبي في المجال الطبي، وإمكان اكتشاف الانسان الشعبي لعلاقة علاجية بين خامات مثل النحاس والفضة وآلام المفاصل والرطوبة، خاصة مع وجود اثباتات علمية لهذه العلاقة، إلاَّ ان الناحية التجريبية ونتائجها الصحيحة عند الانسان الشعبي تتوه في لجة المعتقد السحري والديني وتمتزج فيه.
ثانياً:
على الرغم من ان هذه الوظائف العلاجية لحلى الزار تبدو فقط في هذه الناحية، وأنها أبعد ما تكون عن القيم الجمالية والذوقية المرتبطة بالحلى إلاَّ أنها في الواقع ترتبط بهذه القيم ارتباطاً مباشراً. فهذه الحلى المذكورة كعلاج للزار هي قبل كل شئ نتاج ثقافي محدد بمكان وزمان معين، وهي كذلك تعكس وتجسد مزيجاً من المفاهيم المختلفة إلى جانب القيم المجالية والذوقية لهذا المجتمع. كذلك هذه المفاهيم وهذه القيم هي مفاهيم و قيم متحركة ومتطورة في إطار حركة وتطور المجتمع ككل.. وهذا بالضبط ما يفسر لنا وجود مريضات بالزار من أجيال جديدة- مقارنة بهذه المريضة «06 عاماً»-
تبدأ الاحتفالات رسمياً بيوم الحنة «الحناء» في منزلي العروسين وتكون العروس قد أكملت «مشاط» شعرها. وقد كانوا في وقت سابق يضعون في نهاية كل ضفيرة من شعر العروس كرات من عجينة من روائح المحلب والقرنفل الممزوج بالودك «زيت الشحم» حتى تشد الشعر وليستقيم في شكله، كذلك لإعطائه رائحة ذكية، وأخيراً لتركيز حركته عند الرقص. في اليوم التالي يتم العقد «الصفاح» في المسجد أو «الخلوة»، ويسير العريس في رهط من رفقائه إلى أحد الأولياء وغالباً تكون قبته أو مزاره الخاص بدائرتهم. وفي المساء تكون «السيرة» إلى بيت العروس في جمع من النساء والشباب ووسط موجات صاخبة من الغناء والزغاريد حاملين الهدايا «الشيلة». في هذه الليلة وتسمى ليلة الدخلة يقام الاحتفال الرئيسي وما يهمنا فيه هو «وقفة العروس» تعني كشفها في كامل زينتها وأدائها للرقص الخاص بها. ثم عملية قطع الرحط في نهاية الاحتفال.
عند منتصف الليل يوقف الرقص والغناء وتحضر العروس مغطاة بثوب خاص من القماش الناعم يسمى القرمصيص وهو ثوب خاص بالعروس والمرأة المتزوجة فقط ويتميز بألوانه الدافئة المكونة من الأحمر الغامق والخطوط الصفراء والخضراء والذهبية، وقد وصفته إحدى الروايات بأنه «رطب وألوانه سمحة». كذلك ترتدي العروس ما كان يعرف بالتنورة وهي قطعة غير مخاطة من القماش الأبيض مثبتة برباط حول الخصر وتتدلى لتكسوها حتى القدمين ومن تحتها تلبس الرحط. أما صدرها فعار إلاَّ من الحلى. ولقد تدرجت أنواع الحلى التي تلبسها العروس من أبسط أشكالها مثل الطاب وأنواع السبح والخرز والمطارق، مروراً بأشكال أكثر تعقيداً وثراء في الخامة والشكل مثل الفدو والطاعات والاكمام والحجول والأبيق والنقار والودعة، وحتى أشكال الحلى الذهبية المتأخرة نسبياً والتي سارت حتى بداية الستينيات مثل السعفة والقمر بوبا والفتيلة والتلال والشف والتي بدأت بدورها تفسح المجال للحلي الحديثة بالطبع فإن كمية ونوعية ما تلبسه العروس يتوقف على القدرة الاقتصادية لأهلها وللعريس نفسه. كذلك، فبعض الحلى تغني عن البعض الآخر خاصة عندما يتعلق الأمر بالموقع، فمن الصعوبة مثلاً أن تجمع العروس- أو أية امرأة أخرى- بين حلى مثل الشف والدقة أم ركايز والتيلة.
بانتهاء رقصة العروس ينتهي الاحتفال، وعندئذ يذهب العريس مع أقرب أصدقائه «الوزير» لأداء طقس اساسي هو قطع الرحط- والرحط كان لباس الفتيات حتى العقد الرابع من القرن الماضي في كثير من أجزاء المنطقة بحسب الرواة واستمر كلباس للفتيات الصغيرات إلى ما بعد ذلك بقليل، يدخل العريس يده من تحت التنورة فيقطع السير الذي يربط الرحط. وتتضح وظيفة التنورة في أنها تكسو العروس عند عملية قطع الرحط. تعتبر هذه العملية إيذاناً ببدء مرحلة جديدة، وتغيراً نوعياً في حياة العروسين- ويبدو لي ان تقليداً مثل قطع الرحط هذا ومن قبله أداء العروس لرقصتها بطريقة معينة ومن أمامها العريس ممسكاً بحجابها، يبدو ذلك أقرب إلى الأداء المسرحي الرمزي الذي يجسد الاعتراف بحق العريس في ممارسة حقوقه الزوجية على فتاته. وليس بمستبعد ان يكون مثل هذا الأداء «المسرحي» امتداداً لما تعوده الانسان عبر عصوره من الافتعال التمثيلي لما يود تحقيقه، واحاطة هذا الافتعال بكثرة من الطقوس والممارسات التي يعتقد أنها تضمن وقوع الفعل الحقيقي وتباركه.
يظل العريس ابتداء من هذه الليلة ولمدة أربعين يوماً في منزل أهل العروس، وفي اليوم السابع بعد ليلة الدخلة يحين وقت الجرتق، ولو أن هذه المدة قد اختصرت كثيراً، فما عاد العريس يقضي في منزل عروسه أكثر من أيام معدودة يغادر بعدها إلى منزله. وتعدلت مواعيد الجرتق فصارت في اليوم التالي لليلة الدخلة. والملاحظ في توقيت عمل الجرتق أنه في كل الحالات يتم بعد اكتمال الحدث. فالحامل «تجرتق» بعد الوضوع والمختون بعد عملية الختان والعروسين بعد ليلة الدخلة وهي آخر خطوة في استكمال الشرعية والقبول الاجتماعيين للعلاقة الزوجية.. تتم عملية الجرتق بعد نحر الذبائح وفي احتفال مصغر تردد فيه الأغاني مثل «البنينة» وبعد سلسلة من الممارسات التي يقصد منها الفأل الحسن والتبرك مثل ان يرش العروسين أحدهما الآخر باللبن، تقوم والدة العريس بربط الخرزة وباقي الحلى الأخرى للعروسين كذلك وضع الضريرة «الفال».
وجدير بالذكر ان العريس في هذا الوقت يمتشق سيفاً ويحمل سوطاً ضخماً من الجلد إلى جانب حلى الجرتق. تجرى مراسم الجرتق وقطع الرحط مرة واحدة للفرد في حياته حتى لو تزوج- أو تزوجت- أكثر من مرة. أما باقي أنواع الزينة وأسباب التهيؤ الجمالي الأخرى بالنسبة للمرأة التي تتزوج بعد المرة الأولى فتكون كما هي. وأخيراً بعد انقضاء الأربعين يوماً يخرج العريس إلى عمله وترحل العروس إلى منزل زوجها في رهط من أهلها وصديقاتها حيث يكون المنزل في كامل اعداده وزينته.
ولقد بدأت آثار التغيير تعتري أدوات الزينة هذه خاصة عند الأجيال الجديدة.
فمع اتساع عمليات التحديث والانفتاح الثقافي في منتصف القرن الماضي بسبب الهجرات والاتصال والتعليم دخلت عناصر الحلى الحديثة في الاستعمال اليومي وأخذت مكانها في المناسبات وخاصة مناسبة الزواج. ومع أن المفاهيم والمعتقدات والخطوات الأساسية في احتفالات الزواج بقيت كما هي في ترتييبها وفي اجراءاتها إلاَّ ان التغيرات والاستثناءات بدأت تأخذ طريقها إلى هذه الجوانب الأساسية. وقد بدأت الأجيال الجديدة خاصة في المواقع الحضرية وما حولها داخل المنطقة تتجه إلى الموضات والتقليعات التي تبدأ في العاصمة وتنتشر بعد ذلك. فقد بدأت تنتشر تسريحات الشعر المختلفة بدلاً من «المشاط» وبدأ التزين بأنواع السلاسل والحلقان والغوايش المختلفة الواردة من العاصمة أو المدن القريبة، وبعضها مستورد من خارج القطر. كذلك بدأت العروس تتزين بحلى مثل الغوايش، وبدأت الحلى التي كانت سائدة حتى الستينيات تختفي، أما الحلى الفضية مثل الأكمام والحجول والسوارات فقد سارت في طريق الاندثار منذ ستينيات القرن الماضي. كذلك اختفت من قبل عادات تزينية قدمية مثل دق الشلوفة و«شم الشفة السفلى - الفصل الرابع» والشلوخ. لكننا رغم ذلك ما زلنا نجد في الأجزاء الداخلية من منطقة الشايقية كثيراً من العادات والتقاليد الخاصة بأدوات الزينة وأنواعها قائمة كما هي.
الزار «الظهر أو الريح الأحمر»
يعرف الدكتور محمد الجوهري الزار بأنه «عبارة عن حفل- ذى مقومات خاصة- يستهدف طرد الأرواح أو استرضاءها. ويتم ذلك من خلال تقديم الأضاحي والقرابين، وأداء بعض الرقصات ذات الايقاع الساخن».
وقد اتفق معظم الدارسين لموضوع الزار على أن اصله وأصل الكلمة نفسها يرجعان إلى الحبشة ويحدد أحد الباحثين بأن لفظة زار لفظ أمهري معناه حلول الشر في انسان ما.
والاعتقاد السائد عن الشايقية يتوافق مع هذه التعريفات. فالزار أو الريح الأحمر قوى خفية أو أرواح «أسياد» بخلاف الجن والشياطين، تستطيع أن تحل في انسان معين عندما تريد بعض الأشياء وبمجرد أن تحل هذه الأرواح في شخص ما فإن شخصيته تصبح مطابقة لهذه الروح التي حلت فيه، فيصبح كل ما يحدث عنه هو بلسان هذا الروح أو السيد، وكل تصرفاته وسلوكه هي «بالفعل» تصرفات وسلوك هذه الأرواح، ومن ناحية أخرى فهذه الأروح حساسة جداً تجاه «طلباتها» فهي تتميز بسلوك قلق هو نفس سلوك الشخص الذي حلت فيه، وعليه يكون هذا الشخص بناءً على هذا السلوك «مريض بالزار» أو «فوقه الدساتير» تستمر هذه الأرواح في إلحاحها على طلباتها ولا «تعفو» ولا «ترضى» عن الذين حلت فيهم إلاَّ بعد حصولها عليها. كذلك لا تفارق هذه الأرواح أولئك الذين حلت فيهم حتى عندما تستجاب طلباتها ولكنها تدخل معهم في سلام يرجع بعده المريض إلى حالته العادية. ومن الصفات المميزة للأسياد أنها أرواح نظيفة بطبيعتها- خلافاً للـ «الريح الأسود» وتحب الأشياء الجميلة المبهجة.
وتقترن هذه الأرواح بما يسمى في اصطلاحهم «الخيوط» ولها أسماؤها الخاصة مثل الدراويش والحبش والعرب والسحاحير «جمع ساحر» والخواجات والستات ومنهن بنات الأولياء أو شيوخ الدين المشهورين في المنطقة. ولكل خيط من هذه الخيوط طلباته وايقاعه وأغانيه الخاصة به.
ويتم تشخيص المريض عن طريق شيخة الزار، حيث تأخذ قطعة من ملابس المريضة تسمى «العلق» وتضعها تحت رأسها عند النوم فيأتي لها «الجماعة» أي أرواح الزار وغالباً يكون هذا اللقاء على «مستوى الحلم» فيتحدثون لها عن أسباب مرض صاحبة «العلق» ويشرحون علاجه الذي يتلخص في اجابة طلبات معينة وفي الصباح تقوم الشيخة بابلاغ المريضة بما حدث.
وفي عملنا الميداني انتقينا نموذجاً من مريضات الزار ممن تدخل الحلى ضمن طلبات ومستلزمات علاجها.. هذه المريضة تقترب من عامها الستين وتنتمي إلى خيط «الستات» المذكور سابقاً.
هذا وبعد استقرائنا للوقائع التي جمعناها في هذا الموضوع نبين الملاحظات التالية:
أولاً:
في خمسة من هذه الحلى الثماني كان الغرض الأساسي وراء لبس الحلية غرض علاجي أما الثلاثة المتبقيات فالغرض منهن جمالي. هذه الحلى العلاجية تتكون من حيث الخامة من الخرز والفضة والنحاس، ومن حيث الجانب الرمزي فيها اثنان طلبتا بواسطة أحد «أولياء الصالحين» وهو الشيخ عبد القادر الجيلاني مؤسس الطريقة القادرية الصوفية، وواحدة من هذه الحلى طلبت بواسطة السيدة خضرة وهي بنت أحد أقطاب الطريقة الختمية. وكما بينا في الفصل الخامس عند مناقشتنا للمفاهيم والمعتقدات المرتبطة بأنواع الحلى من حيث خاماتها ورموزها فإن هذه الحلى المطلوبة كعلاج للزار ما هي في الواقع إلاَّ تمائم. فالجبيرة مثلاً معروفة بأنها إحدى حلى الجرتق، وخواتم الفضة من أقدم أنواع التمائم، والخاتم الذي كتب فيه اسم الشيخ عبد القادر يعتبر «عوذة» أو رقية. ومن ناحية أخرى نلاحظ في نوعية الأمراض التي طلبت هذه الحلى لأجلها أنها أمراض عضوية «آلام الظهر والرقبة والرجلين والأصابع» وليست نفسية. وعلى الرغم من تفسير أطباء النفس بأن جميع هذه الأمراض العضوية المقترنة بالزار تكون بسبب الايحاءات النفسية.. إلخ وغير ذلك من المسميات المرتبطة بهذا المعنى، إلاَّ أنه يمكننا أن نشير إلى ناحية التجريب الشعبي في المجال الطبي، وإمكان اكتشاف الانسان الشعبي لعلاقة علاجية بين خامات مثل النحاس والفضة وآلام المفاصل والرطوبة، خاصة مع وجود اثباتات علمية لهذه العلاقة، إلاَّ ان الناحية التجريبية ونتائجها الصحيحة عند الانسان الشعبي تتوه في لجة المعتقد السحري والديني وتمتزج فيه.
ثانياً:
على الرغم من ان هذه الوظائف العلاجية لحلى الزار تبدو فقط في هذه الناحية، وأنها أبعد ما تكون عن القيم الجمالية والذوقية المرتبطة بالحلى إلاَّ أنها في الواقع ترتبط بهذه القيم ارتباطاً مباشراً. فهذه الحلى المذكورة كعلاج للزار هي قبل كل شئ نتاج ثقافي محدد بمكان وزمان معين، وهي كذلك تعكس وتجسد مزيجاً من المفاهيم المختلفة إلى جانب القيم المجالية والذوقية لهذا المجتمع. كذلك هذه المفاهيم وهذه القيم هي مفاهيم و قيم متحركة ومتطورة في إطار حركة وتطور المجتمع ككل.. وهذا بالضبط ما يفسر لنا وجود مريضات بالزار من أجيال جديدة- مقارنة بهذه المريضة «06 عاماً»-